.
اللعن حتى للجماد والحيوان خطيئة كبرى
محمد حماد:
هذا العضو الصغير من أعضاء الناس يقود الإنسان إلى الجنة أو إلى النار، إنه اللسان، والمسلم مأمور بحفظه ومراقبته وكفه عن الناس، إلا في الحق، يقول عز وجل: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، وفي الحديث الشريف: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، ومن أعظم آفات اللسان خطراً زلة لا يبالي بها المرء تورده المهالك، ومن أشد خطاياه وبالا التلاعن بلعنة الله، التي هي على الحقيقة الطرد والإبعاد عن رحمة الرحيم الرحمن، فمن قال: اللهم العن فلانا، فمعناه: اللهم اطرده من رحمتك، وأبعده عن قربك ورضوانك ولهذا يدخل لعن الإنسان المعين في باب كبائر الذنوب التي لا تكفر إلا بالتوبة النصوح، وإصلاح الخلل.
يكون ذلك حتى ولو كان الملعون كافراً، فلا يجوز لعنه ما دام حياً؛ فلعله يسلم ويهتدي إلى دين الحق، وقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً» بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد»، فأنزل الله: «ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون»، وهداهم الله للإسلام، ومن بعد حين كان يقال: يا رسول الله ادع على المشركين، فيكون رده صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة».
وصية نبوية
وقد بين لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن اللعن هو الطرد والإبعاد من الله، وأن «المؤمن ليس بلعان»، فقد روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء»، ووصية رسولنا لنا ولكل المسلمين ألا نكون لعانين، قالها للصحابي الذي سأله أن يوصيه، فقال صلى الله عليه وسلم: «أوصيك ألا تكون لعاناً».
لا ينبغي للمؤمن أن يطلق اللسان باللعنة، وعليه أن يتذكر على الدوام قول الله عز وجل: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)، ولا ينسى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث من أن ترك السب والشتم حتى لو كان مظلوماً هو أحسن وأطيب، فعن أبي هريرة أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، وأبو بكر ساكت، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: (إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله، وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعزه الله بها ونصره... الحديث).
والنساء لا بد لهن من الحيطة من هذه الخطيئة التي توردهن المهالك، فإنهن الأكثر ممارسة لها من الرجال، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر النساء تصدقن؛ فإني أريتكن أكثر أهل النار» فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن وتكفرن العشير».
ظاهرة مرفوضة
الدعاء باللعنة ليس من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله بالرحمة فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، ومن أكبر المصائب التي انتشرت في أيامنا هذه تزايد ظاهرة السب والشتم واللعن في المجالس والهواتف، والدكاكين والمحلات، ومجتمعات الناس حيث يسب الرجل زوجته، ويلعن أولاده، ولا يستثني أقرب الناس إليه، وتلك الظاهرة المصيبة ليست منتشرة على ألسنة عامة الناس فقط، ولكنها وللأسف الشديد لا تغيب عن ألسنة بعض الملتزمين دينياً، ويسهل على البعض منهم إطلاق اللعنات على الناس، وكل ذلك حرام في حرام، ويرجع أغلبه على قائله إذا لم تصادف من هو أهل لها، فقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبواب الأرض دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإن لم تجد مساغاً (أي: مسلكاً) رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها) ما يعني أنه إذا كان الملعون يستحق اللعن وقعت اللعنة، وإلا رجعت على صاحبها.
كثر إذن في كلام الناس تبادل السباب وتداول اللعن من دون أن يعرفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلام ذم لعن الحيوان والجماد أيضا، فقد أخرج مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة»، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد، وروى أنس أن رجلاً كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير فلعن بعيره، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله لا تسر معنا على بعير ملعون» وقد قال ذلك إنكاراً عليه.
لا شفعاء ولا شهداء
ويكفي في قبح اللعن والسب وبذاءة اللسان أن صاحبه لا يشفع يوم القيامة، فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم: «إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة»، ثم يأتي اللاعنون فيلقون باللعنات يمينا ويسارا بكل سهولة كأن الأمر عادي، وما يدرون أن اللعن كبيرة من كبائر الذنوب، وأنت الآن ترى بعض الناس وقد تساهلوا في أمر اللعن، فكثيراً ما تسمع هؤلاء يقولون لغيرهم: «الله يلعنك»، وكأن اللعن أسهل عليهم من شرب الماء، يجري به لسانهم من دون أن يدروا أن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ساوى بين لعن المؤمن وقتله في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي زيد ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه وهو من أهل بيعة الرضوان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملكه، ولعن المؤمن كقتله». وأسوأ من هذا وذاك من يلعن أبويه، وهو ما حذرنا منه الرسول الأكرم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه».
«لا تقولوا هذا »
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بجهنم»، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار».
وانظر إلى الأدب في التعامل مع مثل هذه الحالات فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به وهو يريد الطائف فقال: هذا قبر رجل كان عاتياً على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال: يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من أبي قحافة، فقال أبو بكر: «يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام، فقال صلى الله عليه وسلم: «اكفف عن أبي بكر»، فانصرف، ثم أقبل على أبي بكر فقال: «يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا، فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء»، فكف الناس عن ذلك.
حتى العاصي والفاسق لا يجوز لعنه أو الدعاء عليه بالخزي، وقد نهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب قال: «اضربوه، قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم أخزاك الله»، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا هذا، لا تعينوا عليه الشيطان)، وفي رواية: فقال بعض الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تكن عونا للشيطان على أخيك».
* * *
*المصدر: جريدة الخليج، ملحق "الدين للحياة"، نشر بتاريخ 4 يناير 2019م.