.
أقباس..
*جريدة الخليج
يوسف أبو لوز:
من وقت إلى آخر، تذهب إلى أقباس الحكمة والفلسفة، كلمات قليلة ومعانٍ عديدة، ودائماً عليك بالجملة القصيرة، وتجنّب إن قدرت الإسهاب والإطناب، ففيهما شروح وإنشاء، واقطف من اللغة زهرتها، وخذ من الزهر أريجه.. وتجنّب ما للريح وما للنحل، فلكل امرئ نصيبه من الوردة والبستان.
كان السري السقطي من زهّاد القرن الثالث الهجري، وكان يرى القلوب ثلاثة:.. قلب مثل الجبل لا يزيله شيء، وقلب مثل النخلة أصلها ثابت والريح تميلها، وقلب كالرّيشة يميل مع الرّيح يميناً وشمالاً..
.. وعند أبو علي الدقّاق ثلاث أُخر: يقول: الدلالة للعقل، والإشارة للحكمة، والشهادة للمعرفة. وأيضاً، عند ابن مسكوية ثلاث أخر: يقول: يا طالب الحكمة طهّر لها قلبك، وفرّغ لها لبّك، واجمع إلى النظر فيها همّتك..
جمع الكاتب الياباني إينازو نيتوبي بين السياسة والاقتصاد والزراعة. هل يمكن أن تولد الحكمة من هذه المفارقات الثلاث أيضاً. يقول نيتوبي إن الرحمة فضيلة رقيقة أقرب إلى عاطفة الأمومة، ولكن ما يدهش حقاً في حكمة هذا الرجل الذي عاش من 1862 إلى 1933 قوله إن الرجال الأكثر شجاعة هم الأكثر رقة، ويقول:.. مَنْ يسكن الحب قلوبهم تشتد جسارتهم.
فيودور دوستوفسكي له رأي آخر.. يقول: «إنني أحب الإنسانية، غير أن هناك شيئاً في نفسي يدهشني:.. كلما ازداد حبي للإنسانية جملة واحدة، نقص حبي للبشر أفراداً»، ويوضح رأيه هذا بقوله: «.. لو أريد لي أن أعيش يومين متتاليين في غرفة واحدة مع إنسان، لما استطعت أن أحتمل ذلك..».
ولكن، ما الشعور الذي يجتاح الكاتب، شاعراً، أو روائياً حين يباشر عملية الكتابة؟.. حين يباشر تلك الكيمياء المعقّدة، الغامضة، المركبة التي لم يحللها مختبر ولم يحط بها عقل حتى الآن؟ الكتابة هذا النشاط السرّي، الفردي، بل، الأناني، أحياناً، وأحياناً العلني، المكشوف، النهاري، بل وربما الإجباري. الكتابة عملية ذاتية، روحية، الهامية، ولكن الغريب في حالة الكاتبة جينيفر إيغان أن عدم الكتابة قد يؤدي بها إلى الاكتئاب.
تقول إيغان.. حين لا أكتب يجتاحني شعور بفقد شيء ما. إذا طال بي الحال تزداد الأمور سوءاً وأصاب بالاكتئاب، حينها أشعر بعطب بطيء يشرع في التكوّن، كما لو أنني أهبط من تلّة، بفعل الجاذبية وحدها، لبعض الوقت، لكن بعد ذلك، تصاب أطرافي بالخَدَرْ..».
عدم الكتابة يعني في المقابل عدم الحكمة، والفيلسوف الذي يصاب في أوراقه كما يقولون ولا يحوّل الفكر إلى كتابه، هو الآخر، كمن يهبط من تلّة، وتصاب أطرافه بالخَدَرْ..
الشاعر الأمريكي والت ويتمان وجد خلاصه في الحيوانات: «.. لا تعرف الأسى والعويل على أحوالها، ولا تستلقي مستيقظة في الظلام.. تبكي من خطاياها، فلا حيوان ساخطاً، ولا واحد منها مصاب بَهَوس تملّك الأشياء، ولا واحد منها محترم أو تعيس على وجه الأرض كلّها..»... إلاّ حمار لوقيوس أبوليوس الذي تحوّل من إنسان إلى حمار. جسد حيواني وعقل آدمي. ومع ذلك بوسعك أن تتعلّم منه الحكمة وهو يتعلّم منك السخط والهَوَسْ والتعاسة.