أطول الأعوام وأعسرها

خيري منصور

* دار الخليج



لم يكن العام الذي نودعه كسائر الأعوام، ليس فقط بما شهده من الدم والتشريد والتدمير، بل لأنه العام الذي تزامنت فيه عدة مئويات منها: مئوية سايكس بيكو التي يجري إصدار طبعة جديدة منقحة ومزيدة ومئوية الحرب العالمية الأولى، ومئوية وعد بلفور، وسقوط الإمبراطورية العثمانية. عام لن ينتهي عندما يتعانق عقربا الساعة في آخر دقيقة منه، لأنه فاض عن أيامه ولياليه، وله ظلال وأصداء وترددات سوف تستمر زمناً.
وبالرغم من ذلك فإن ثقافة الحياة وعنفوانها تبقى أقوى من ثقافة الموت، لهذا فإن التفاؤل بما سوف يأتي ليس مجرد تقليد أو عرف اجتماعي، إنه الرهان الخالد الذي جعل التاريخ يمضي بجدليته بحيث لم تستطع امبراطورية أن تدجن مجراه. لكن ثقافة الحياة وفلسفة التبشير بالتعايش بين البشر تحتاج إلى كدح ومواصلة حفر، وهذا بحد ذاته يتطلب تصعيداً للوعي ضد محاولات تجريفه، وتنويراً يدخر ما تكثف من ظلام، ويبدو أن هذا الحوار لا نهاية له، بين من يبني ومن يهدم. وما من عام مرّ على البشر كان فردوساً مفقوداً أو يوتوبيا، لكن الأمر نسبي، بحيث تبدو بعض الأعوام أبطأ وأعسر من سواها، بسبب ما يحدث فيها من حروب ونزاعات تترك ندوباً في القلب!
وحين يتولى محترفو رصد ما حدث في عام قضى، قد تسقط منهم سهواً أحزان صامتة لم تدرجها الميديا على الشاشات، وهي أحزان أناس عاديين حلموا بحياة آمنة، لكنهم وجدوا أنفسهم عالقين بالتاريخ والجغرافيا معاً، فلا هم هنا ولا هناك!
وحين تصبح الحياة مجرد ترقب وانتظار فإن كل شيء يصبح مؤجلاً رغم أن العمر واحد، وما من سبيل لتعويض ما فات.
نعرف أن من لا يطيقون رؤية ضوء شمعة ومن أدمنوا الظلام كالوطواط لن يعطوا لأنفسهم عطلة حتى ليوم واحد، لأن تحويل الأفراح إلى أتراح أصبح حرفة العاطلين عن الحياة لفرط عشقهم للموت!
ومن دشنوا هذا القرن وهذه الألفية بما أنتجت ثقافتهم العمياء من دخان وغبار ودمار سيواصلون المهمة اليائسة، لكنها لن توقف التاريخ ولن تشل إرادة الإنسان الذي كدح آلاف الأعوام كي يجعل من هذا الكوكب مكاناً صالحاً للإقامة.